الأرض كروية وتدور

مروان الغفوري

الرئيس صالح لن يرحل إلا عبر صناديق الاقتراع! هو نفسه الذي أعلن قبل أسبوعين إنه لن يخوض تجربة الصناديق مرة أخرى احتراماً للمادة 112 من الدستور اليمني: فترتان رئاسيتان فقط، لا تمديد ولا توريث. شكك المستمعون، على ناقة أبيهم، في مصداقية مبادرة صالح الأخيرة. صالح يفشي أسراره وترتيباته عن غير قصد: سيكون هناك انتخابات رئاسية قادمة سيخوضها الرئيس صالح. يمكن أن يفهم هذا المعنى ببساطة، وهذا بالضبط هو سر شرعية الثورة الراهنة. ليس لهذا النظام “عهد ولا ذمّة” ولا ضمانات لوعوده، فلا داعي للحوار معه. إنه الجني الذي لا نعرفه، والإنسي الذي نعرفه عن ظهر قلب. سيرحل بكل تأكيد، وسيختفي هو وخيله ورَجله. سيرحل لأنه عمل بذكاء شديد على استكمال عوامل فنائه عبر الزمن: شبكة ولاء نفعية غير وطنية قضت على الروح الوطنية والإبداعية، تبديد الجمهورية لصالح قوى مناطقية تدير مخاليفها فيما يشبه الحكم الذاتي، الزج بالفشلة والفاسدين لإدارة شؤون المدينة على نحو راكم الحقد والكراهية. وفوق كل هذا: لقد قضى هذا النظام على كرامة وكبرياء اليمنيين إلى حد الهوان.

لن يجادلك أحد إذا قلت الآن: أصبحت أشعر بالمهانة لأني يمني. شكراً لتعز التي ترفع يافطات: ارفع رأسك أنت يمني. يثور اليمنييون الآن لأمور كثيرة لكن رأس حربة عناصر تخليق الثورة هو “الثورة ضد احتقار الناس لهم”.

**

حرة يا تعِز، وعظيمة يا عدن. الجمعة الفائتة، جمعة البداية، خرج قرابة مليون “بُرغلي” حر مثقف سدوا شوارع تعِز، وساحاتها. خرجوا ليربطوا اللسان البلطجي الأمي العنصري التافه البغيض الذي سخر منهم في صنعاء، وطالب بطردهم إلى قراهم، برباط نعالهم الشريفة في بلدتِهم التي اجتازت –الآن– جسر الخوف إلى ناصية الجلجلة. كل مدينة في بلدي حرة وعظيمة. أسمع الشباب في تعز وصنعاء وعدن الدنيا دويّاً ليس سوى دوي الحق والحقيقة: “يا علي عطّف فرشك، من تعِز يسقط عرشك”. بالمقابل، خرج حوالي خمسة آلاف شخص، غالبيتهم من أبناء بلدي الفقراء الذين سحق هذا النظام بسياسته الفئوية وهمجيته العنصرية عظامهم وأهاليهم حتى الجيل العاشر، خرجوا ليهتفوا ببقاء رئيس لا يتمنون بقاءه لساعة إضافية واحدة. غمسوا أياديهم في أطباق الشوربة والأرز بالزعفران، تحصلوا على ما تيسر من القات، ثم انطلقوا إلى ميدان التحرير-ساحة الحريّة– ليهتفوا مع مواطنيهم الشجعان: الشعب يريد إسقاط النظام. لا يوجد بلطجية في تعز، يوجد فقط أحرار. في تلك الساعة قرر النظام أن يدس الوقيعة بين أبناء هذه المدينة: قنبلة قاتلة تنطلق من نافذة سيارة يُقال إنها تخص رجلاً من تعز لطالما عمل كقفازي شوك لمصلحة رجال النظام! إن صحت الرواية فيا له من جزاء، ويا لها مكافأة نهاية خدمة ..

**

الشعب اليمني مسلح. لم يمر بهذا الشعب زمن ألقى فيه سلاحه. ومع ذلك فلا وجود لحرب أهلية “عامة” في تاريخه. المعارك الجزئية التي تخوضها بعض فئات الشعب، القبائل على سبيل المثال، لا علاقة لها بمسألة السلطة والحكم ولا ترقى لمرتبة الحرب الأهلية. إنها ضرب من تلك الحروب التي تجري في حقب مختلفة من التاريخ، وفي بقاع عديدة على الأرض، لدى المجتمعات البشرية التي لم تنجز بعد تحولها إلى دولة مدينية حقيقية يسود فيها القانون ويتوسطها السوق. فلا خوف على الثورة من الشعب المسلّح. فهو ليس شعباً سفيهاً، وليس هو جيشاً من البلطجية السفّه. مشكلته الجوهرية يمكن حصرها في قيادة سياسية يمكن أن نركّب عليها، بكل موضوعية، كل الصفات الناقصة الموجودة على سطح الكوكب، لكنه شعب عظيم بحق. أليس هذا الوصف هو ما تقوله افتتاحيات صحيفة الثورة منذ العصر “الجمبري والبُلطي”؟ الآن أصبح الشعب العظيم خطراً نائماً لا يجدر الحديث إليه، وناراً في قميص قديم ليس من الحكمة مجاورتها! دعوا ترهاتكم وسطحيتكم حبيسة رؤوسكم الرثة، إنها لا تعني جيل الثورة الجديد، فالشعب العظيم يعرفُ جيّداً كيف يثبت أنه شعب “يمني عظيم”. وها هي تباشير الثورة تنبعُ من الجدران والأودية، فدعوها تنظّف بلدتنا من دخان البرابرة الحمقى، والقتلة المتأنقين..

**

الشعب اليمني مسلح، لكنه متدين وتحكم وعيه الجماعي مرجعيات أخلاقية ودينية شديدة الصرامة. إنه يحمل الكلاشنكوف، لكنه يدرك بعمق أن “رب الكلاشنكوف” يراقب أفعاله، ويغضب شديد الغضب لدم حرام يُراق بلا ذريعة أخلاقية واضحة. ولأنه مسلح عن بكرة أبيه فإنه سيفكر كثيراً في استخدام سلاحه. هكذا، فإن شيوع السلاح لدى الجميع يفقده ميزته كعامل حسم. من يطلق الرصاصة سيكون عليه أن يستعد لاستقبال مثلها. الأجدى، إذن، أن يظل السلاح بعيداً عن دوائر الجدل والخلاف. بهذا التوازن تعيش المجتمعات البشرية في كل الأرض بسلام، وتتناسل في المستقبل. ثمة مرتزقة عنصريون، ومرتزقة بلا مرجعيات يمكن أن يطلقوا النار على الشباب الأعزل، على الطليعة المدنية فائقة الجودة. لكن الرصاص سرعان ما سيكف عن الانهمار، وستمر الثورة كعادتها رشيقة مجلجلة. وفي طريقها ستقطع اليد التي أطلقت الرصاص الحقير، وستسمل أعين أولئك النفر من اللصوص الذين دفعوا مما سرقوه لأناس جياع كي يقتلوا أبناء بلدتهم تحت رابعة الشمس والهتاف. لن يفلت القتلة بفعلتهم، سيمثلون أمام أولياء الدم وستغمرهم المهانة حتى الأعناق. الأرض كروية، وتدور!

**

يحاول الرئيس، الذي يُوشك أن يصبح “رئيسا سابقاً”، أن يخوف الجماهير من أي فعل احتجاجي في مجتمع السلاح. لقد ذهب بعض القتلة الذين لطالما استخدمهم في مهمات لا تسقط بالتقادم إلى تعز وألقوا قنبلة قاتلة في حشود من الناس. قالت القنبلة ما أراد الرئيس أن يسوقه للجماهير: نحن مجتمع مسلح، ومن الممكن أن يفقد بعض الناس عقولهم فيهرعوا إلى السلاح كما رأيتم. إذن، على الأسر أن تسحب أبناءها من الشوارع والميادين، لأن الموت في المجتمع المسلح أكثر وفرة من أي شيء. جاءت الرسالة في التوقيت الخاطئ، ووصلت إلى المدينة الخاطئة. سقط شهداء جدد، وكبرت كُرة الثورة. نموذج شبيه بما فعله مبارك وبن علي والقذافي. كلهم دخلوا فالق الزبالة العظيم، والبقية يتحضرون لذلك. عندما عاد البرادعي إلى مصر حاصره ضباط أمن مبارك في المطار، ثم وضعوه في إقامة شبه جبرية. بعد 24 ساعة فقط كان المحاصر البرادعي يمهل مبارك أسبوعاً واحداً لمغادرة مصر. الأرض كروية وتدور.

**

سيلجأ الرئيس صالح إلى أمور أكثر خطورة من تأجير البلطجية. وكالمتوقع، سيتمنى لو أنه لم يلجأ إليها، عندما تكتمل دائرة العبور إلى العصر الجديد ويتحول الشعب من المطالبة برحيله إلى المطالبة بمحاكمته. يخشى الرئيس من توريط الأمن المركزي والقوات الخاصة والحرس الجمهوري. فهو لن يكون بمقدوره أن يضحي بقادة هذه الأجهزة على شكل نعاج فداء لامتصاص طواحين الغضب عندما تجتاز الجماهير ثلثي الطريق إلى النور، ويكون هؤلاء القادة قد تورطوا في حمام دم يمني خالص.. ليس فيهم حبيب العادلي البعيد عن أسرة مبارك نسباً وصهراً، فـ “كلهم أبنائي” إذا استعرنا تعبير آرثر ميللر في مسرحيته الشهيرة. سيستأجر قتلة كثيرين، وربما يدخلون على الناس بالخيل والجمال والحمير. لا يملك الرئيس صالح استراتيجية واضحة للتعامل مع ظاهرة الكتل البشرية الضخمة ذات الإرادة النوعية التي قررت أن تجعل من سلطته شيئاً من الماضي. فهو يرى، وسيرى كثيراً وعلى نحو مؤلم وقبل الغيبوبة، كتلاً بشرية تزحف باتجاه هدف واحد: استعادة إرادتها وقرارها. سيراوغ، وسيقدم وعوداً، بالتزامن مع دم هنا وأشلاء هناك. كل هذا لن يجدي، لأسباب معقدة يأتي في مقدمتها وجود النموذج الجاهز: تونس، مصر.

**

وصف رئيس البرلمان اليمني ثورة مصر بأنها لا تشرف المصريين، بينما اختار أوباما أن يعبر عن رأيه فيها بمقترح حول “تدريس هذه الثورة لطلبة أميركا”. أما وكيل وزارة التربية والتعليم في اليمن فقد قال عن مشعلي الثورة في مصر بأنهم “شوية لغج” وهو يدرك تماماً أن أمامه ألف عام قمرية لكي يصبح ” لغجة” يحمل من المعارف والعلوم والوعي الحضاري مثل أصغر شاب في ميدان التحرير. في رأيي، قد لا تكون هذه الألف عام كافية. لا يزال النظام في اليمن ينظر للعالم من خلال مرقاب خشبي يفطس من الضحك.

لقد غادر القطار المحطة، وسيجلب العسكر واحداً تلو الآخر. ليس مهما إلى أين سيأخذهم، المهم أن يختفوا من المشهد السياسي، أن ينقرضوا مثل أي ديناصورات أو ثديات ضخمة عديمة الجدوى، وغير قادرة على التكيف. المهم أن تتلاشى هذه القطع الديناصورية، أن تغرق في عصر أحفوري لا يغري أحداً. اللغج المصريون، والبراغلة في اليمن، هؤلاء البوعزيزيون الأوفياء لأمتهم وضمائرهم، سيكنسون التاريخ من جديد. هذا ليس مجازاً، وليس كلاماً بلا دليل. لقد كان حسني مبارك “حجر الجسر”. سيسقط الجسر بمجمله إلى هاوية لا قرار لها، يقال إنها تنتهي بغيبوبة. لا يهُم.

**

خرج الشباب من الفيسبوك وتوتيتر، فخرج لهم السلطان بالجمال والجنابي. المسافة بين الفيسبوك والجمل، وبين الجنبية والماوس تعكس الهوة الأحفورية السحيقة التي تفصل هذه الشعوب عن قادتها، القادة الملهمين الذين لا يجيدون سوى الدسيسة والبعال. إنه تناقض غير قابل للحياة، وضد الأبدية. سيستمر الفيسبوك، وسينتصر بقوة الأشياء، بحتمية التطور، وستسقط الجمال والجنابي. ومعها ستنقرض الديناصورات الهشة، ذوات الأنياب الضخمة والعقول الخاملة.. إلخ.

 

معلومات عنّا revolutiontaiz
صادق غانم كاتب وناشط حقوقي ومدون يمني

أضف تعليق