نبيل سبيع: يوم من الجحيم في عدن

أطاح عيار ناري انطلق من مدفع مضاد للطيران بنصف جمجمة أحد المحتجين المطالبين بتنحية الرئيس علي عبدالله صالح عن الحكم في مظاهرات أمس بعدن. وتظهر صورة يد طبيب ترتدي جوانتيه أبيض في أحد مستشفيات المدينة وهي تحاول دون جدوى تثبيت النصف العلوي من جمجمة المتظاهر الذي يدعى علي الخلاقي بالجزء المتبقي من رأسه. لا تظهر صور أحداث الجمعة التي شهدتها شوارع وساحات عدن مواجهة عادية بين احتجاجات سلمية وقوات أمن تقمعها بضراوة، قدرما تظهر مجزرة.
الرئة اليسرى لجريح يدعى علي طلال الخوربي تظهر في صورة ثالثة خارج قفصه الصدري الذي تلقى رصاصة غير معروف عيارها، في حين تظهر صورة رابعة وجه شاب تمزق بشدة تحت ضربات الهراوات. ويظهر نائب مدير الكهرباء في المنطقة الأولى سالم باشطح في صورة خامسة ممددا على سرير الموت وهو يرتدي فوطة وفانيلة بيضاء داخلية في أحد المستشفيات بعد أن تلقى عيارا ناريا طائشا وهو هاجع في منزله. وليس هؤلاء سوى أمثلة على الضحايا الذين سقطوا في أحداث الأمس المروعة التي عاشتها عدن بين ظهيرة الجمعة وفجر اليوم السبت.
سقط 9 قتلى و40 جريحا على الأقل وسط الاحتجاجات السلمية التي واجهتها قوات الأمن المركزي والقوات الخاصة والحرس الجمهوري وطاردت شبانها في شوارع وأزقة الأحياء والمدن. إنها المرة الأولى التي تشهد فيها عدن احتجاجات بهذا الحجم منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية الجنوبية مطلع 2007، وهي المرة الأولى التي تواجهها قوات الرئيس صالح بهذه الضراوة منذ ذلك الوقت. يقول العميد علي السعدي، القيادي في الحراك الجنوبي: “تعودنا على هذا القمع، لكن ما حدث بالأمس كان أمرا مختلفا، كان إفراطا غير مسبوق في استخدام القوة”.
أدى السعدي صلاة الجمعة مع آلاف المحتجين في ساحة الحرية بمدينة المنصورة، ثم صلاة الميت على جثمان ياسين الجحافي (16 عاما) الذي قتل في المدينة نفسها في الـ 16 من هذا الشهر. تحرك الجثمان مع الجموع التي يقول السعدي إنها بلغت 60 ألف متظاهرا الى مقبرة الرحمن في المنصورة حيث دفن، ثم اتجهت الجموع صوب جولة القاهرة حيث تنتصب بزهو صورة كبيرة للرئيس صالح.
كان المحتجون يحملون الورود ويرمونها على الجنود المتواجدين في أغلب الجولات ومفترقات الطرق التي عبروا جوارها بحسب الصحفي والناشط الحقوقي شفيع العبد الذي كان بين المتظاهرين، وعند وصولهم الى جولة القاهرة رموا صورة الرئيس الفخورة بالأحذية. “للأمانة، اكتفى الجنود بمراقبة الموقف دون أن يبدوا ردا قمعيا”، قال شفيع الذي أضاف: “واصلنا طريقنا عبر الشيخ عثمان وحي عبد القوي فمنطقة المملاح الى العريش”.
في كل الجولات التي عبرتها المظاهرة، كان الود واقفا بين المحتجين والمتظاهرين وفقا لشفيع. لكن الأمر تحول 180 درجة الى النقيض بمجرد وصول المظاهرة الى منطقة العريش المؤدية الى خور مكسر. “فتحوا النار علينا فجأة”، قال شفيع. وقد سقط 5 جرحى وسط المحتجين قبل أن تتفرق المظاهرة تحت القصف الذي قال السعدي إنه تضمن أعيرة مضادة للطيران ورشاشات كلاشينكوف وقنابل مسيلة للدموع. ولم يتمكن المحتجون من الوصول الى النقطة المقصودة.
ساحة الشهداء في خور مكسر كانت الهدف حيث كان من المقرر أن تلتقي جموع المحتجين القادمين من مدينة المعلا وكريتر وأنحاء أخرى من عدن لإقامة اعتصام دائم هناك. لكن المدينة التي تقطنها غالبية من أبناء البدو من أبين والضالع الذين شكلوا قوام جيش اليمن الجنوبي قبل الوحدة كانت مغلقة بقوات من الأمن والجيش من جميع مداخلها: منطقة العريش، معسكر بدر، جولة فندق عدن وجولة فندق ميركيور.
بقيت ساحة الشهداء بعيدة عن شهداء احتجاجات عدن المطالبة بسقوط نظام صالح الذين تساقطوا على مداخل خور مكسر أو في مدنهم وأحيائهم بعد تراجع مظاهراتهم الى هناك. بين الظهيرة والمغرب، سقط أحد المحتجين قتيلا و18 جريحا في مداخل خور مكسر والمعلا وكريتر. لم تتوقف الاحتجاجات كما لم يتوقف قمع قوات الأمن والجيش لها.
فترة المساء، استمر دوي الأعيرة النارية بدون توقف لعدة ساعات في حين واصل شعار “الشعب يريد اسقاط النظام” شق طريقه في سماء المدينة مصحوبا بتقطع غالبا ما تتخلله صيحات “الله أكبر” و “لا إله إلا الله” كلما سقط محتج مصابا بعيار ناري. ويظهر كليب شابا ملثما في المعلا يرتدي “تي شيرت” أبيض كتب عليه بالانجليزية “ATHALIC” التي تعني بالعربية “رياضي” وهو يواجه عدسة الكاميرا رافعا إصبعي النصر فيما يدوي رشق الأعيرة النارية من خلفه.
وحتى منتصف الليل، كان سكان عدن يتحدثون عن شوارع وسماء مشتعلة. وقد تضاربت المعلومات بشدة حول عدد الضحايا الذين سقطوا خلال المساء بين قتيل وجريح. وإذ أمضت عدن يوم أمس مجزأة ومفصولا بعضها عن بعض، بقيت المعلومات متضاربة وغير مؤكدة. لكن ما رشح لـ”الشاهد” من معلومات تحدث عن 8 قتلى ونحو 22 جريحا بينهم أطفال ونساء.
وفي حين بدا أنها جمعة استثنائية في حياة المدينة التي شهدت أكبر مشاركة من نوعها من قبل النساء طوال مسيرتها الاحتجاجية التي ستدخل مارس القادم عامها الخامس، لم تكن هذه الجمعة أقل استثنائية في القمع. وقد فاقم من استثنائية هذا القمع أن الخصم المتمثل في الرئيس صالح كان طرفا مضطربا وغير واضح الهوية، فتارة يبدو مفصولا عن قوات الأمن والجيش التي راقبت بحياد تلقي صورته أحذية بعض المتظاهرين، وتارة تبدو هذه القوات مندغمة فيه.
إنها حالة يمنية خاصة تتعلق بالفوضى التي تتداخل فيها المهام وكل الأمور بعضها ببعض. في مقدمة المظاهرة التي تحركت من مسجد أبان في مدينة كريتر باتجاه العقبة المفضية نزولا الى المعلا، تظهر صورة حشدا من النساء. المحامية العدنية البارزة عفراء حريري كانت في الصدارة وقد راقبت سير المظاهرة من قلب الأحداث. “أثناء صعودنا الى العقبة، فتح الجنود علينا النار فجأة وسقط جريحين حالتهما الآن بالغة الخطورة”، قالت عفراء وأضافت: “اطلق الجنود ألفاظا سيئة ضد النساء (المشاركات في المظاهرة)”.
عفراء، التي حرصت على تبيين أن الجنود المتلفظين بألفاظ سيئة ضدها وزميلاتها المتظاهرات كانوا من الجنوبيين، قالت إنها شاهدت سيارة تحمل لوحة رقم (10010\7) كانت تنقل “بلطجية” لم يتم اعتراضها من قبل جنود الأمن. وتابعت: “سمح الجنود أيضا لسيارة صالون سوزوكي بيضاء- رجحت أنها كانت- تحمل بلطجية أيضا بالتنقل بحرية دون أي إيقاف في كل النقاط التي عبرتها”.
بعد تفريقها عصرا، عادت المظاهرة الى كريتر حيث ستعاود التجمع بعد المغرب من أجل مسيرة للتنديد بما وصفته المحامية بـ”المجازر” التي تعرضت لها مظاهرات عدن السلمية. لكن المؤسف من وجهة نظر حريري أن المسيرة شهدت انقساما إثر تدخل “مدسوسين” يعملون لصالح النظام قالت إنها تعرفهم شخصيا قاموا بتحريض صغار السن من الشبان المشاركين في المظاهرة المنتمين لفئة “المهمشين” والذين لا تتجاوز أعمارهم 20 عاما للقيام بأعمال شغب. “حرضوهم على لوحات الإعلانات وأعمدة النور ثم انتقلوا الى تحريضهم على مبنى البلدية وقسم شرطة كريتر”، قالت عفراء وأضافت: “انقسم الشباب بين معترضين على التكسير والتخريب وبين المطالبين به. ثم اتجهوا (القسم الأخير) تحت قيادة المحرضين الى مباشرة أعمال الشغب والتخريب في شارع أروى”.
لا تبدو السلطات خارج دائرة التورط في قمع الاحتجاجات بشكل مباشر أو غير مباشر. فعدا عن فتح النيران على المحتجين السلميين واتهامها بالتورط في تحريض شبان محتجين على ارتكاب أعمال شغب، تقول المعلومات إنها إعاقت وصول محتجين سقطوا جرحى الى المستشفيات. وطبقا لهذه المعلومات، فقد سقط 15 جريحا وسط المحتجين في الساعة العاشرة من مساء أمس ولم يتم إسعافهم بفعل إعاقة السلطات لذلك إلا في الساعة الواحدة من فجر اليوم بعد أن نشرت قناة الجزيرة القطرية الخبر.
وقال بعض المسعفين إن مندوبي البحث الجنائي في مستشفى الجمهورية بالمدينة أعاقوا عمليات إسعاف 7 جرحى وصلوا الى المستشفى.
وسقط خلال الفترة من 16 فبراير الجاري حتى 21 منه 19 شهيدا و124 جريحا برصاص قوات الأمن المركزي والقوات الخاصة ووحدات أخرى أثناء استخدامها للذخيرة الحية والأسلحة الخفيفة والمتوسطة ضد المشاركين في الاعتصامات في عدن وحدها على ما ذكر تقرير لمنظمة الحزب الاشتراكي بعدن.
ولا يبدو أن عدن ستعيش ربيعا إحتجاجيا بعد توحيد جهودها مع احتجاجات الشمال المطالبة بسقوط نظام الرئيس صالح. قد يبدو هذا التوجه الجديد في الاحتجاجات الجنوبية أمرا سعيدا لليمن، لكنه بكل تأكيد ليس كذلك بالنسبة الى الى الرئيس صالح.

معلومات عنّا revolutiontaiz
صادق غانم كاتب وناشط حقوقي ومدون يمني

أضف تعليق